الوعد الشرقي
.
.
.
.
.
.
.
قال لي صديق من زملائي في المحكمة عندما كنت أعمل قاضياً بها:
كنت أمس وراء مكتبي فسمعت صوتا يقول: السلام عليكم.
فرفعت رأسي فإذا أمام وجهي بطن رجل، وكأنه بطن فرس ضخم من أفراس البحر، أما رأسه فكان في نصف المسافة بيني وبين السقف، ومدّ إليّ يده كالمخاطب يصافحني، ثم عمد إلى أكبر مقعد في الغرفة فحاول أن يدخل نفسه فيه فلم يستطع، فلبث واقفاً وعرض حاجته وهي دعوة إلى اجتماع للمصالحة بين أخوين من إخواننا. فوافقته.
قال: أين نلتقي؟
فقلت له: هنا الساعة الثالثة بالضبط.
قال: نعم، وولى ذاهبا كأنه عمارة تمشي.
وجئت في الموعد، فوجدت المحكمة مغلقة، وقد نسيت أن أحمل المفتاح فوقفت على الباب والناس ينظرون إليّ، فمن عرفني أقبل يسألني، فأضطر لأن أشرح له القصة، ومن كان لا يعرفني، حسبني أحد أرباب الدعاوى، فقال: (ما فيها أحد، المحكمة مغلقة) فلا أرد عليه، وأنا واقف أتململ من الضجر، أرفع رجلا وأضع أخرى، وأقبل مرة وأدبر مرة، أنظر من هنا وهناك، فكلما رأيت من بعيد شيئاً كبيرا أحسبه صاحبي، فإذا اقترب رأيت جملاً عليه حطب، أو حماراً فوقه تبن، أو تاجراً من تجار الحرب الذين انتفخوا من كثرة ما أكلوا من أموال الناس، حتى مضت نصف ساعة، وأحسست النار تمشي في عروقي، غضباً منه ومن نفسي أن لنت له ولطفت به، وذهبت إلى الدار وأنا مصدوع الرأس، مهيج الأعصاب فألقيت بنفسي على الفراش. فلم أكد أستقر لحظة، حتى سمعت رجة ظننت معها أن قد زلزلت الأرض بنا، أو تفجرت من حولنا قنبلة، وإذا أنا بصاحبي الضخم، قد فتح له الخادم الباب فراعه أن رأى فيه فيلاً يمشي على رجلين، فأدخله عليّ بلا استئذان، وولى هارباً.
ونفخ الرجل من التعب كأنه قاطرة قديمة من قاطرات القرن التاسع عشر، التي لا تزال تمشي بين دمشق وبيروت، وألقى بنفسه على طرف السرير، فطقطق من تحته الحديد وانحنى.
وأخرج منديلاً كأنه ملحفة، ومسح به هذه الكرة المركبة بين كتفيه، وقال:
- هكذا يا سيدنا؟ ما بنتنظر شوية؟ شو صار؟ والغائب عذره معه، والكريم مسامح، وعدنا وعد شرقي؟
وعد شرقي؟ أليس عجيبا أن صار اسم (الوعد الشرقي) علماً على الوعود الكاذبة، واسم (الوعد الغربي) علماً على الوعد الصادق؟.
ومن علم الغربيين هذه الفضائل إلا المسلمون؟ من أين قبسوا هذه الأنوار التي سطعت بها حضارتهم؟ ألم يأخذوها منا؟
من هنا أيام الحروب الصليبية، ومن هناك، من الأندلس بعد ذلك، وهل في الدنيا دين إلا هذا الدين يجعل للعبادات موعداً لا تصح العبادة إلا فيه، وإن أخلفه المتعبد دقيقة واحدة بطلت العبادة؟ إن الصوم شرع لتقوية البدن، وإذاقة الغني مرارة الجوع حتى يشفق على الفقير الجائع، وكل ذلك يتحقق في صوم اثنتي عشر ساعة، واثنتي عشر ساعة إلا خمس دقائق، فلماذا يبطل الصوم إن أفطر الصائم قبل المغرب بخمس دقائق، أليس هذا تعليماً للدقة والضبط والوفاء بالوعد؟ ولماذا تبطل الصلاة إن صليت قبل الوقت بخمس دقائق؟
والحج؟ لماذا يبطل الحج إن وصل الحاج إلى عرفات بعد فجر يوم النحر بخمس دقائق، أليس لأن الحاج قد أخلف الموعد؟
أولم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق، وجعل المخلف ثلث منافق؟ فكيف نرى بعد هذا كله كثيراً من المسلمين لا يكادون يفون بموعد، ولا يبالون بمن يخلف لهم وعداً ؟ أو يتأخر عنه، حتى صار التقيد بالوعد، والتدقيق فيه والحرص عليه، نادرة يتحدث بها الناس، ويُعجبون بصاحبها ويَعجبون منه… وحتى صارت وعودنا مضطربة مترددة لا تعرف الضبط ولا التحديد.
يقول لك الرجل (الموعد صباحاً)، صباحاً؟ في أي ساعة من الصباح؟ في السادسة، في السابعة، في الثامنة؟ إنك مضطر إلى الانتظار هذه الساعات كلها. (الوعد بين الصلاتين) وبين الصلاتين أكثر من ساعتين؟ (الوعد بعد العشاء). أهذه مواعيد؟! هذه مهازل وسخريات، لقوم لا عمل لهم، ولا قيمة لأوقاتهم، ولا مبالاة لهم بكرامتهم!
هذه مواعيدنا وفي ولائمنا، وحفلاتنا، وفي اجتماعاتنا الفردية والعامة.
دعيت مرة إلى وليمة عند صديق لي قد حدد لها ساعة معينة هي الساعة الأولى بعد الظهر، فوصلت مع الموعد فوجدت المدعوين موجودين إلا واحداً له عند صاحب الدار منزلة، وتحدثنا وحلت ساعة الغداء وتوقعنا أن يدعونا المضيف إلى المائدة فلم يفعل، وجعل يشاغلنا بتافه الحديث، حتى إذا تأخر الوقت قلت: هل عدلت عن الوليمة؟
فقال: حتى يجيء فلان.
قلت: إذا كان فلان قد أخلف الموعد، أفنعاقب نحن بإخلافه؟ وهل يكون ذنبنا أنا كنا غير مخلفين؟
والحفلات مثل الولائم، يكتب في البطاقة أنها تبدأ في الساعة الرابعة، وتبدأ في نصف الخامسة. وأعمالنا كلها على هذا النمط، ركبت مرة الطائرة من مطار ألماظة في مصر فتأخرت عن القيام نصف ساعة انتظار راكب موصى به من أحد أصحاب المعالي. ولما ثرنا معشر الركاب وصخبنا طار بنا، فلم يسر والله ربع ساعة حتى عاد فهبط، فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شيء، وإذا العودة من أجل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وكنت يومئذ عائدا من رحلة رسمية، فلما وصلت إلى مطار المزة في دمشق وجدت أكثر من مئتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل، ينتظرون قدومي في الشمس منذ ساعة كاملة.
والسيارات مثل الطيارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي، كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعد معروف، فيا أيها القراء خبروني سألتكم بالله، أي طبقة من الناس تفي بالموعد، وتحرص عليه وتصدق فيه، تدقق في إنجازه؟ الموظفون؟ المشايخ؟ الأطباء؟ المحامون؟ الخياطون ؟ سائقو السيارات؟ من؟ من يا أيها القراء؟.
يكون لك عند الموظف حاجة لا يحتمل قضاؤها خمس دقائق، فتجيئه وهو يشرب القهوة، أو يقرأ الجريدة، أو يشغل نفسه بما لا طائل تحته، فيصّد فيك بصره ويصوبه، ويقومك بعينه، فإن أنت لم تملأها، ولم تدفعه لمساعدتك رغبة فيك، أو رهبة منك قال لك: ارجع غداً. فترجع غداً، فيرجئك إلى ما بعد غد… لا أعني موظفاً بعينه، ولا عهداً بذاته، بل أصف داء قديماً سرى فينا واستشرى، ودخل وتغلغل.
ويكون لك موعد مع شخص، فيجيئك بعد نصف ساعة، ويعتذر لك، فيكون لاعتذاره متن وشرح وحاشية، فيضيع عليك في محاضرة الاعتذار نصف ساعة أخرى. وإن دعوته الساعة الثانية جاء في الثالثة.
والطبيب يعلن أن العيادة في الساعة الثامنة ولا يخرج من داره إلى العاشرة، وتجيئه في الموعد فتجده قد وعد خمسة من المرضى مثل موعدك، واختلى بضيف يحدثه حديث السياسة والجو والكلام الفارغ، وتركهم على مثل الجمر، أو على رؤوس الإبر، ينتظرون فرج الله، حتى يملوا ، ويذهبون يفضلون آلام المرض على آلام الانتظار، ويؤثرون الموت العاجل المفاجئ على هذا الموت البطيء المضني.
أما الخياطون والخطاطون، والبنّاؤون، وأرباب السيارات، وعامة أصحاب الصناعات، فإنهم يشتهرون بإخلاف الموعد. الكذب لهم ديدن، والحلف عادة، ولطالما لقيت منهم، ولقوا مني، وما خطت قميصاً ولا حلة، ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، إلا كووا أعصابي بفعلهم، وشويتهم بلساني، وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو هجاه الحطيئة أو جرير أو دعبل الخزاعي.
فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونعد وعد الصدق، وتقوم حياتنا فيه على التواصي بالحق لا يعد فيه المرشح وعداً إلا وفى به بعد أن يبلغ مقاعد البرلمان، ولا يقول الموظف لصاحب الحاجة إني سأقضيها لك إلا إذا كان عازماً على قضائها، ولا الصانع بإنجاز العمل إلا إذا كان قادراً على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره، والأطباء لا يفارقون المكان ساعات العيادة، والخياط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعاً، وتمحى من قاموسنا هذه الأكاذيب.
يقول لك الموظف: من فضلك لحظة واحدة. فتصير لحظته ساعة.
ومتى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديداً صادقاً دقيقاً، فلا يتأخر موعد افتتاح المدارس من يوم إلى يوم ويتكرر ذلك كل سنة، ولا يرجأ موعد اجتماع الدول العربية في الجامعة من شهر إلى شه، إن إخلاف الموعد الصغير، هو الذي جرّ إلى إخلاف الموعد الكبير. ومتى صلحت أخلاقنا، وعاد لجوهرنا صفاؤه وطهره، وغسلت عنه الأدران، استعدنا مجدنا.